Menu

حكومةُ نتنياهو السادسة والمخاوفُ من الاقتتال الداخلي 

محمد أبو شريفة

نشر في العدد (49) من مجلة الهدف الرقمية

التغييراتُ الجاريةُ في الكيان الصهيوني اليوم لم تعد وهمًا أو ضربًا من ضروب الخيال، بل باتت واقعًا يعيشه الكيان بكلّ تداعياته، وينبئ بوتائرَ متصاعدةٍ يومًا فيومًا. فجوهر هذه التغييرات يتمحور حول بنية النظام السياسي التقليدي الذي حكم طوال 75 عامًا الآخذ حاليًا بالتصدّع والتداعي، وربّما يتّجه نحو انهياراتٍ متتاليةٍ أمام أعيننا، فلم تعد (إسرائيل) كما تزعم "واحة الديمقراطية" سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا والنظام الأمني الاحتلالي الاستيطاني هو الآخر ليس بمعزلٍ عن شبح الانهيارات المتتالية المترافقة مع انهيار النظام السياسي. وبموازاة ذلك فإنّ بنية العلاقات الدولية والإقليميّة باتت تخضع هي الأخرى لتغييراتٍ كبرى، وإعادة بنائها على منطقٍ مختلفٍ تمامًا عما كانت عليه في الحقبة الماضية.
لقد تحوّلت التغييرات المتسارعة في الكيان الصهيوني إلى حدثٍ بارزٍ إقليميًّا ودوليًّا، خصوصًا بعد أن اتّسعت حدّة الإضرابات والمظاهرات منذ بداية العام الحالي، التي أدّت إلى إعلان رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو (27/3/2023)، تجميد خطة التعديلات القضائية لا إلغائها تجنّبًا من حدوث انقسامٍ كما زعم في تصريحاته، لكن هذه الخطوة التبريرية جاءت مترافقةً مع خطواتٍ موازيةٍ أجبرته على تقديم تنازلٍ لشركائه في الائتلاف الحكومي، وعلى رأسهم إيتمار بن غفير الذي أعلن قبول التأجيل مقابل موافقة نتنياهو على جعل ما يسمّى "الحرس الوطني" الجديد تحت سلطة وزارة الأمن القومي التي يترّأسها بن غفير، وهي محاولةٌ التفافيةٌ على سلطة القضاء وعامل ضغط جديد. وبحسب المصادر فإنّ "الحرس الوطني" سيكون موازيًا للجيش والشرطة الإسرائيليّة وسيتكوّن من مجموعةٍ من الفرق الخاصّة للسيطرة على أماكن مهمّة وحسّاسة يصعبُ على الشرطة والجيش السيطرة عليها، لذلك يعود سبب إنشاء هذا الحرس بحسب مراقبين وخبراء صهاينة إلى انعدام الثقة لدى عناصر الشرطة والجيش بعد تدخّل القضاء في مهامهم والقوانين التي يؤدّونها ضدّ الجندي والشرطي. وعليه سيكون تحويل هذه الفكرة إلى تجسيدٍ واقعي على الأرض إجراء خطير قد يفسح المجال أمام تعميق الانقسام السياسي الحالي وإمكانية تحويله إلى مواجهةٍ داميةٍ بين قوى صهيونيةٍ مسلحةٍ بكل مصالحها واعتباراتها السياسية والأيدلوجية المتشابكة والمتناقضة والسؤال هنا: أين يقف فريق المعارضة وخصوم نتنياهو من هذه الأجواء الملتهبة؟
ثمّة موقفٌ واضحٌ من المعارضة الإسرائيليّة يقول بعدم جدية نتنياهو في الوصول إلى اتفاقٍ وتسويةٍ ترضي جميع خصومه، وبالرغم من تجاوب الأخير مع دعوات الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ لعقد جلسات حوار مع المعارضة؛ بهدف إيجاد حلٍّ للأزمة الحالية إلا أن عدم الثقة كان سيد الموقف، خاصة بعد أن تناقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية وبالأخص القناه 12 العبرية مكالمةً تليفونيّةً لوزير القضاء ياريف ليفين تؤكّد نية الائتلاف الحاكم إعادة طرح الخطة في الدورة التشريعيّة القادمة وتوعد وزير القضاء بالترويج للخطة في المناطق كافةً دعمًا وإسنادًا للتعديلات؛ الأمرُ الذي عدّته المعارضة خرقًا لأي تفاهماتٍ مع نتنياهو تنفي جدية أي جلساتٍ حواريةٍ قادمة.
وتفرّدت "تايمز أوف إسرائيل" بنشر مقالة (20/3/2023)، عن تبادل الاتهامات بين نتنياهو وهرتسوغ حول من الذي يتصرف بطريقة تجعل "البلاد تواجه خطر حربٍ أهليّةٍ حقيقية"، وأشار المقال إلى وصول الأزمة لمرحلة "تمزيق المجتمع الإسرائيلي بعمق". وكان الأخير قد حذّر في مقالٍ سابقٍ من اندلاع حربٍ أهلية، وأعلن عن إطار عمل إصلاح القضاء، ولكن نتنياهو رفض ذلك، وحينها صرّح هرتسوغ بأن "فكرة الدم في الشوارع لم تعد صادمةً بالنسبة لأولئك الذين يحملون الكراهية". وفي مقابلةٍ أجرتها وكالة "كيبا" في (22/3/2023)، مع نائب قائد الأسطول الثالث عشر السابق لكيان الاحتلال قال:"إنه إذا لم تحدث التغييرات المطلوبة فإنّ حربًا أهليّةً ستندلع في إسرائيل، وأكّد بأن هذه الحكومة تقودنا إلى حربٍ أهليّة، وإلى حربٍ مع العدو الخارجي. ليس من الضروري أن تكون الحرب من خلال إطلاق النار، برأيي نحن في حربٍ أهليةٍ منذ عدة سنوات".
وسائلُ الإعلام ألقت الضوء على أزمة الكيان الصهيوني الداخلية وإمكانية تطوّرها وانتقالها إلى مربع الحرب الأهلية وتحميل المسؤولية لأطرافها الرئيسيين، حيث أصدر رئيس الشاباك الأسبق يوفال ديسكين تحذيره الخاص العام المنصرم، وكتب مقالًا لصحيفة YediotAhronot بعنوان "على حافة الحرب الأهليّة"، قبل أيام من الانتخابات التي شهدت صعود الحكومة الصهيونية الدينية المتطرفة الحالية إلى سدة الحكم. وتوقع ديسكين بما سيحدث لاحقًا، واعتمد في تحليله إلى حالة التفكّك التي تضرب التماسك الاجتماعي الداخلي، التي جادل بأنّها جاريةٌ الآن. وصدمت توقعاته الكثيرين بين الأوساط السياسيّة والإعلاميّة، ما دفعهم إلى المسارعة لتوبيخه ومحاولة إثبات أنه على خطأ. وبعد مضي ستة أشهر، أظهرت استطلاعات الرأي أنّ ثلث الإسرائيليين يوافقونه ذلك التوقّع والتحليل؛ إذ كشف استطلاعٌ أجرته مؤسّسة Israeli Democracy Institute، في (شباط/فبراير) الماضي، أن ثلث المشاركين لديهم قناعة باحتمالية اندلاع حربٍ أهليّةٍ عنيفةٍ بينما ترتفع هذه النسبة إلى أكثر من 50% بين المشاركين في الاحتجاجات.
وضمن الأجواء الملتهبة التي تعتري المشهد في كيان الاحتلال تجلى الخلاف الأميركي الإسرائيلي بصورةٍ لم تكن مألوفةً من قبل، وبات التساؤل حول فحوى العلاقة بين الكنيست والبيت الأبيض في المرحلة المقبلة، خاصة بعد أن استدعت واشنطن السفير الإسرائيلي مايك هرتسوغ، في خطوةٍ غير مسبوقةٍ تهدفُ إلى توجيه إخطار لنتنياهو، بأن حكومته قد تجاوزت الحدود المسموح بها، فيما يتعلق بالترويج لخطة "الإصلاح القضائي" وكذلك إلغاء قانون فك الارتباط، ما يسمح باستئناف بناء المستوطنات شمالي الضفة الفلسطينية المحتلة. ومن اللافت وخلافًا للتقاليد المتبعة بينهما فإنّه لم يتم دعوة نتنياهو لزيارة البيت الأبيض منذ أن شكّل حكومته قبل أربعة أشهر.
 فمن الواضح أن عودة الاستقرار للمشهد السياسي الإسرائيلي لن تتم إلا مع تبيان حجم الخلاف مع أميركا حيث اتّخذ مؤخّرًا أبعادًا مختلفةً عن السابق لا سيما بعد انتقادات الرئيس الأميركي العلنية للتعديلات القضائية؛ ما دفع نتنياهو ليقول إن "إسرائيل دولة ذات سيادة تتخذ قراراتها دون ضغوط من الخارج بما في ذلك أفضل الأصدقاء". وبموازاة ذلك جاءت تصريحات وزير الأمن القومي بن غفير بانفعالٍ تحريضيٍّ تصعيديٍّ يعلن أن "على أميركا أن تفهم بأن إسرائيل دولةٌ مستقلّةٌ، وليست مجرد نجمةٍ أخرى على العلم الأميركي".
ربّما ما يجري هو خلافٌ تاريخيٌّ غير مسبوق يخالف توقعات من يقدم مشهد الأجواء المضطربة داخل الكيان بشكلٍ مبسّطٍ ومسطّحٍ والإيهام بأنها أزمةٌ عابرة، فقد استدعى خصوم بايدن تحميله مسؤولية المستجدات الخطيرة، ويرون في موقفه تدخّلًا في الشؤون الداخلية لإسرائيل، وحذّر البعض منهم بأن التطوّرات السياسيّة الدولية قد تدفع تجاه تعزيز الانقسام الأميركي، وفي الناحية الأخرى تحمل المعارضة الإسرائيلية نتنياهو مسؤوليّة ما آلت إليه الأوضاع ووصفته بأنه "خطأ استراتيجي"، وبالمحصلة فإنّ الطرفين لم يعترفا إلى اللحظة بأن الخلاف بينهما ليس بسبب خطة الإصلاح القضائي بل أكبر وأخطر. لقد رصدت وسائل الإعلام العالمية جانبًا من حالة التباين الحاصلة بين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن والحكومة الإسرائيلية ووصفها البعض بأنها حالةٌ دخلت مرحلةً شديدةَ التعقيد والتشبيك، وكشفت بأن حجم التناقض بين إدارة بايدن وائتلاف نتنياهو ربّما تفصح عما هو أكثر تعقيدًا وأعمق، وذكرت مجلة (تايم) أن الرابطة بين الطرفين التي كانت "غير قابلة للكسر" باتت مهدّدةً تحت الضغط، وأكدت مجلة (فورين بوليسي) بأن "العلاقة بين أميركا وإسرائيل لم تعد منطقيّة".
فالأولويات باتت بينهما متضادّةً وغير متجانسةٍ فبالرغم من السيناريوهات الفوضويّة الأميركيّة في المنطقة التي تسعى واشنطن لتغذيتها على الدوام، إلا أن حجم التغييرات الإسرائيلية يتطلب دعمًا أميركيًّا خاصًّا يتجاوز الحدود التي تسمح بها التوازنات الدولية الحالية، وخصوصًا أنّ قوة أميركا أصبحت مشتتةً في ساحات صراع متعددة، وتسعى حاليًا لتحشيد إمكانياتها الأساسية ضمن أولويات كل ساحة وأهميتها، وهو ما يؤدي بها إلى الوقوف بوجه المحاولات الإسرائيلية في إعادة توجيه الأمور وفقًا لرغبة نتنياهو حتى وإن سقطت حكومة نتنياهو التي تتراجع بحسب استطلاعات الرأي الجديدة، فإن الوضع سيبقى على ما هو عليه، والإدارة الأميركية تدرك أن أولوياتها حاليًا أهم من الخوض في مشاكل نتنياهو الداخلية، ومن ثَمَّ فإنّ الحكومة الحالية تعي أنها ليست المسبب الحقيقي والوحيد لأزمة العلاقات مع واشنطن فجميع قوى الائتلاف والمعارضة في كيان الاحتلال يدركون أنّ أولويات واشنطن تتبدّل وتتسارع، وحاليًا لا يوجد مكان للتوافق بين مصالح الطرفين، وفي حال اتّجه المشهد الإسرائيلي إلى انتخاباتٍ جديدةٍ ونجحت القوى في تشكيل حكومةٍ جديدة، فإنّها ستجد نفسها أمام الأزمة ذاتها، حتى وإن أدارتها بشكلٍ مختلف، فالمشكلة ستبقى حاضرةً وتكشف أزمة حكم شاملة عانى منها الاحتلال في العقود الماضية، وما زال يعاني وتعمقت في السنوات الأربعة الماضية، وكشفت نقاط ضعفه التي جعلت (إسرائيل) أضعف من أي وقتٍ مضى، حيث باتت الأزمة على مصراعيها بين الأحزاب والتيارات والقوى العلمانية والليبرالية الإشكنازية المؤسسة للكيان، وبين الأحزاب القومية والدينية الصهيونية الأكثر تطرّفًا وعنصريةً التي تريد إقامةَ دولةٍ دينيّةٍ على أنقاض الدولة الليبرالية اليهودية التي مثّلها الكيان الصهيوني طوال العقود السبعة الماضية.
 إنّ عجز القوى السياسيّة في الحصول على الأغلبيّة داخل الكنيست الإسرائيلي كان مؤشّرًا على اضطراباتٍ ستعمّ المشهد السياسي الإسرائيلي منذ بداية العام الحالي لا سيّما بعد أن وصلت القوى كافةً إلى حائط صدّ، وأصبحت مضطرةً لتشكيل توليفاتٍ غير تقليدية اتّسمت بعدم الاستقرار وتباين الرؤى الأيديولوجيّة، لذلك يعدّ تعديل صلاحيات القضاء في جوهره محاولةً لتغيير نمط النظام السياسي في إسرائيل، وهي خطوةٌ يراها نتنياهو الذي يواجه اتهامات فساد أنّها حلٌّ مناسبٌ للخروج من شبح القلق الوجودي الذي يعيشه الكيان منذ عقود طويلة، لذلك نتساءل هنا: هل إبعاد نتنياهو والإطاحة به سيحل الأزمة؟ أم ستبقيها حاضرةً ومتفاعلةً ومتصاعدةً في جوهرها وتؤدي إلى حيث تلقي أهوالها؟ أم أن المشهد السياسي الإسرائيلي يتّجه نحو تشكيل حكومةٍ واسعةٍ لا سيّما إذا تمّ الاتفاق على تصدير الأزمة عبر سيناريوهاتٍ عدوانيّةٍ تستهدفُ الفلسطينيين وغيرهم؟